مدعوم من google

الأربعاء، 7 سبتمبر 2011


جدلية العلاقة بين الكاتب و القارئ 

قرأت مقالا في وكالة عجلون الإخبارية، بعنوان: "العلاقة الفكرية بين الكاتب والقارئ" الذي نوه إلى جزيئه لطبيعة العلاقة بين الكاتب والقارئ مستطردا إلى طبيعة العلاقة بينهما محكومة إلى الديمقراطية الفعالة، وواصفا  إياها بالأسلوب الوحيد للتعاطي بأي موضوع بين الكاتب والقارئ، ودعا أن تكون الديمقراطية غير منقوصة؛ فيأخذ الكاتب النقد بأسلوب بناء وروح عالية وكذلك القارئ إذا كان الحديث عنه أو فكره ومبادئه وقضاياه. مستطردا إلى أهمية الكتابة التي شبهاها بالحياة وعدمها بالموت قائلا "يصدر حكمه الحقيقي غير المعلن بحياة الكاتب في الكتابة أو بموته في الحياة ". وهذه قضية خلافيه، أصلها غربي، حاول الأدباء إدخالها إلى حيز الثقافة العربية، المعروفة عند الغربيين "بالمعرفة  البنيوية" المنتجة على يد عالمها ورائدها رولان بارت؛ فكرة "موت المؤلف"، والتي تدعوا إلى ضرورة تناول النص بمعزل عن مؤلفه وكأنه غير موجود، فهذه جدلية أخرى لا نريد الخوض بها ألان. ووصولا لذلك دعا الكاتب بضرورة تطوير اللغة العربية التي تستطيع استيعاب كل المفاهيم والمصطلحات الحداثية وما بعد حداثية للخروج من المأزق العربي الذي أصبحنا حبيسين فيه، قائلا: "إعادة ترتيب بيت اللغة للعقل العربي من أزمته الراهنة".

فدفعني هذا المقال إلى طرح تساؤلات بحاجة إلى إجابة ملحة. ماذا يريد الكاتب من القارئ، وماذا يريد القارئ من الكاتب؟. إن العلاقة التي تحكم الكاتب بالقارئ والعكس صحيح أيضا؛ علاقة أزلية قديمة، تثبت أن كل واحد بحاجة إلى الأخر؛ فالكاتب بحاجة إلى قارئ جيد يستمع إليه ويصوب أخطائه بالنقد البناء ويساعده في إثارة أفكاره وطرح جدديها بطريقة غير مطروقة. ويسعد الكاتب كلما علم أن نسخ كتابة أو بحثه أو دراسته قد نفذت من السوق، وباعتقادي له سببين، الأول: انه زاد من ربحه المادي، فالكاتب الحقيقي لا يبحث بالدرجة الأولى عن هذا الربح، رغم أهميته، وما يسعده أكثر انه مقبول عند قرائه، وله جمهور عريض؛ يتناول فكره وحقول معرفته المتبحرة، وما يعطيه الحكم على أن كتابته حازت على نوع من القبول عند القارئ والتي ستدفع به إلى مزيد من البحث والتنقيب في حفريات المعرفة وسبر أعماق العلم والثقافة .

والقارئ بحاجة إلى كاتب يرشده سبله بالحياة ويحل مشاكلها المتنوعة المختلفة من توضيح وحل وحتى ليفهمه أمور دينه، فكلا الطرفين واحد فالكاتب قارئ والقارئ كاتب. وهنا يظهر سؤال أكثر إلحاحاً، أيهم أهم، وماذا يريد كل واحد من الآخر، وما هو الشيء المأمول تحقيقه من علاقتهما معا؟. وعما يبحثه القارئ في الكاتب .. هل يبحث عن كاتب يقرأ له، ويرتاح له ويعبر بقدر معين عن مكنونات نفسه وخلجاتها وأطوره الفكرية، أم انه يبحث عن كاتب يُثير فيه الغريب والجديد، ويدفعه للتفكير والنقد والمساهمة لإحداث التنمية والتطور، أم انه يحاول الفهم للقضايا التي تُشكل عليه، أم انه يبحث عن شخص يحترمه أو يشعر باحترامه له أم يبحث عن التسلية واللهو وتمضية الوقت.

والكاتب ماذا يريد؟، قارئا ناقد مصححا حتى ولو كان لاذعاً بنقده وطرحه؛ فيقول رأيه بموضوعية، أم مصفقا منافقا، ليقول الناس مادحين كارهين؛ فلان كاتب يظهر في وسائل الإعلام والصحف والمجلات ونحوها ... أم أشخاصا يقرؤون له ويتعالى بكتاباته عليهم، أم انه امتهن مهنة أتقنها فأحبها وارد أن يفيد الناس بما يعرف؟!.

الأصل في العلاقة صحيح وكل التساؤلات مطروحة عندهما "الكاتب و القارئ"، ولا يمكن دفع واحدة وترك الأخرى، إلا من خلال معرفتك المباشرة بالكاتب أو القارئ. فيمكنك أن تعرف كاتبا معرفة جيدة من خلال كتاباته التي في الأصل هي شخصيته أو أسلوبه في الحياة، ولكن هذا لا ينطبق إلا على الكاتب الحقيقي؛ الذي كلما ارتفع علمه زاد احترامه للناس، وزاد تواضعه وحبا لكسب مزيدا من المعرفة وإعطائها لهم بالوقت نفسه.

ومعرفة القارئ فيها صعوبة أكثر؛ فأنت لا تعرف القارئ أصلا، ولا يمكن أن تعرفه إلا في حالات استثنائية نادرة، وهي ليست مقياس ولا تصلح للحكم عليها؛ فالقراء أمزجتهم صعبه متنوعة محكومة بظروف الحياة ومجرياتها وحالاتهم الفكرية، ونوع المشاكل التي يعانون، ولا نغفل إدراج الكاتب فهو ليس ببعيد عن هذه العوالم؛ فهو فرد من المجتمع الإنساني، وفي هذه الحالة ما ينطبق على القارئ ينطبق على الكاتب، وربما على الكاتب أكثر من القارئ؛ ولا يعني ذلك أن القارئ جاهل؛ فمنه العالم والمعلم والأستاذ والمحامي والمهندس والنجار والصانع والتجار والمزارع وغيرهم كثير، فقبل أن يكون كاتبا فهو قارئا ومازال. والقصد أن القارئ لا يملك الحرز على طرق تفكيره وملكات الكتابة وأساليبها، ولا يستطيع أن يكون حازما بما يرضيه وماذا يريد، فكل ما على الكاتب هو ترجيح حالة على أخرى، وليس التخمين؛ فالترجيح مبني على دراسات علمية ونظرته المتأملة المتفحصة لواقع المجتمع الذي يعيش فيه أو الذي يقرأ عنه في جميع جوانب حياة الإنسان وحالاته.

فمهمة الكاتب طرح الأسئلة والقضايا وأبعادها وتداولاتها والمحاولة من خلال النقاش العقلي الوصول إلى حلول منطقية، وليست بالضرورة أن تكون آرائه صحيحة بل هي أرأى قابلة للنقاش حتى يتم الاتفاق أو رفضها أو التعديل عليها ولكن من الضروري أن تكون كتاباته وطروحاتة مفهومة لدى القارئ وإلا ستكون كتابته هباء منثور، قال الدكتور احمد خضر: "كم من كاتب في هذه الأرض على اختلاف السنة أهلها قد قضى عمره يستصفي للناس عصارة تجاربه في كلمات ثم خرج من هذه الدنيا وكأنه لم يقل شيئا .وما يخول الكاتب الطرح؛ ما يمتلكه من خبرة عملية وثقافية حضارية، ومرونة عقلية تجريبية، التي تمكنه من التحليل والمناقشة وطرح الآراء والحلول، والتي قد تضل مشكلا إلى عهود وأزمنة بعيدة. ويحاول الكاتب الجاد أن يشتر الحلول المنطقية، المبنية على الوقائع الظاهرية والخفايا النصية، يقول الأمام جعفر الصادق "إن كثرة النظر في العلم تفتح العقل، وكثرة النظر بالحكمة تلقح العقل". وهذا يدفعه أن يكون متواصلا متصلا بمجالات المعرفة والثقافة اقله التي تهمه وتورقه؛ فلا ينبغي له أن يبقى على حالة منغمساً في معرفته السابقة وان يعتبرها المعرفة الأسمى والأفضل، بل علية التواصل الدائم مع الثقافات والحضارات والمستجدات ومطلعاً على الشعوب وتجاربهم حتى تبقى عنده القدرة على التحليل والربط والاستنتاج والابتكار ونحوها، وحتى لا يفقد طرق طرح الأسئلة ونوعيتها والرؤية الصحيحة ويكون أكثر فاعلية في مجتمعه وأكثر قبولا.

فالقارئ الحقيقي المتابع للثقافة وأحوالها، يمكنه الحكم على الكاتب من مقالته؛ فهي  بمثابة لسان حاله الذي عبر عن لسان مقاله، وكما قال الشاطري "فالنص يمثل استخدام المعجم الشخصي للمؤلف لكنه يجب أن يراعي منظومة الاستخدام العام للأصول المعجمية التي انبثق منها النص وذلك حتى ينجح النص في فعل الاتصال ويكتسب موقعا في العملية التداولية وعندها يكون مستعدا لتلقي الأحكام النقدية وعرضة للمواقف البحثية في الساحة الأدبية فيكون (سهلا) أو (معقدا) ". وباعتقاد لينين : أن القارئ الحقيقي لا يتلقى الأفكار سلبا بل يعمل العقل بها ويتدبرها؛ ما وافقه أخذه وما خالفه طرحه واستثناءه وما أُشكل عليه طرحه للبحث والمداولة؛ فما يثبت يأخذه وما ينفى يطرح ويخرج من سياقاته المعرفية المتفق عليها. بمعنى أن القارئ كاتبا يسهم في إنتاج المعرفة بشكوكه وطروحاته وتسأولاته وقبوله لهذه المعرفة ورفضه لأخرى، المحكومة بفعل القراءة؛ التي عرفوها بالعملية العقلية التفاعلية المستمرة تشمل تفسير الرسوم والرموز التي يتلقها القارئ من مقالة الكاتب بالعين أو الانفعالية العقلية أو الإحساس الناتج عن التفاعل والتأثر بمقالة، معملاً تجربته وخبراته السابقة إضافة إلى مكنوزة من المعرفة في التحليل والنقد وصولا إلى الاستنتاج وحل المشكلات، وهذا مرهون بمستوى القارئ ومدى إطلاعه ونوعه، وبذلك يمثل القارئ نوعا من الرقابة على الكاتب وكتاباته فهو في النهاية يصدر أحكاما على كليهما.

فالأصل أن تقبل الأفكار و ترفض، والمشكوك فيه يطرح للنقاش إيجابا وسلبا، وهذا لا يحتمل المزاج والتعصب ولا التمسك بفكرة ورفض غيرها؛ بل محكوما بالمنطق والأدلة والبراهين والقدرة على عرضها؛ ومتعلق بالمستوى الثقافي للأخر، الذي يقبل النقاش ويخوض غماره أو يقصره ويرفضه ويتعصب لفكره ونحوه، ويقول الأمام جعفر الصادق "البلاغة ليست بحده اللسان ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجة".

فالعلاقة بينهما محكومة بالقلق والخوف، والتي تكون اشد ظهورا وبروزا في حالة إذا كان القارئ صاحب فكر حقيقي أو أيدلوجي أو ديني؛ فعندها تحتكم العلاقة إلى مصادرها (القلق والخوف)؛ بمعنى أن العلاقة تهتز كثيرا مع القراء الجادين لا العابرين الذين لا يسلمون بما يقول الكاتب هكذا، ولا يسمحون بمروره سريعا، بل بالغالب هم أصحاب فكرة أو قضية يدافعون عنها بكل سبلها المتاحة عقليا؛ بعكس القارئ البسيط الذي يقرأ  سعيا لاكتساب معرفة سريعة أو للتسلية وتمضية الوقت. فغالبا لا تتعدى محاكاته الفكرية المخاطبة العاطفية، بعكس القارئ الجاد الذي يجدّ في مستويات حفريات المعرفة؛ الأكثر عمقا في جدلية الأفكار والقضايا الحضارية والمعرفة الإنسانية.

وستبقى هذه العلاقة جدلية قائمه؛ مدام هناك كاتب وقارئ وخاصة مع كتاب جادون وقراء لا يختلفون عنهم في الجدّة والمثابرة؛ فستصعب العلاقة وتتعقد أكثر مما هي عليه الآن، ولكن نتائجها ستكون أفضل مقارنة بمستوى المعرفة التي وصلنا إليها في واقعنا العربي، وبذلك نخرج من دائرة اللامبالاة والاستهتار بكل شيء ونتحمل مسئولياتنا بجد وإخلاص، فمسؤولياتنا كبيره والتحديات جسيمه، وزاد من صعوبتها اختلاط الأوراق ببعض، لدرجة أصبح الإنسان منا شاك بالمعرفة التي كان يعتبرها يقينا.

فانطلاقا من هنا أوجه النداء إلى كل المفكرين والعاملين في حقول الفكر والمعرفة و وزارة التربية والتعليم أن يشتركوا جميعا؛ بدءا من معلمينا ومناهج وزارتنا، للإسهام في غرس العلم والمعرفة التي ستكون هي سببا في نجاتنا بعد تعلقنا وتمسكنا بديننا الحنيف، الدين الإسلامي.

والله الموافق والغاية والقصد .

منشور في: مجلة الفكر الحر، زاوية: مواقف وأراء، الأردن، العدد 78 ، السبت، 1-1-2011م

                                                                       حلمي درادكه

 بتاريخ 10 – 5 - 2010 م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ارجو من المشاركين الابتعاد عن اللفاظ التي قد تثير التحفظ، وتقديم الطرح بنقد بناء وموضوعية جدية، لنكون خدميين للحقيقة، وشكرا للمساعدة.